Saturday, December 4, 2010

*الكنيسة الأرثوذكسية والدولة المدنية في مصر

في دولة يؤكد البعض أنها مدنية، ويقول البعض الآخر إنها دينية، في حين أدت معطيات وملابسات متناقضة إلى عدم تمكّن الكثيرين من تحديد طبيعتها وهويتها الحقيقية؛ انخرط الجميع في جدال محتدم لم ينته منذ نهاية مايو 2010، وذلك في أعقاب إصدار المحكمة الإدارية العليا في مصر حكمين نهائيين بإلزام قداسة البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية بإصدار تصريحين بالزواج الثاني لاثنين من المواطنين المسيحيين.
وفيما احتدم الجدل حول رفض الكنيسة القاطع لتنفيذ الحكمين، فإن الكنيسة لم تدخر جهدًا للترويج، لأن الحكمين يخالفان الدستور والقانون ونص الكتاب المقدس (الإنجيل)، وأنهما يمثلان تدخلاً سافرًا في شأن ديني لا دخل فيه للقضاء.
 وقد أكد قداسة البابا شنودة أن الحكمين يمثلان معارضة صارخة لتعاليم السيد المسيح، وذلك فيما يتعلق بالزواج المسيحي الذي يعد أحد أسرار الكنيسة. وقد اقترن عدم التزام الكنيسة بالحكمين بإطلاق تهديدات بشلح (عزل) أي كاهن يمنح تصريحات بالزواج إلى مطلق.
وقد عبَّر العديد من المسيحيين عن تأييدهم المطلق لموقف البابا والكنيسة، وذلك في مظاهرة حاشدة بالكاتدرائية الكبرى بالعباسية شهدت أعدادًا غفيرة من المواطنين الغاضبين إلى جانب الكهنة الذين أتوا لحضور عظة البابا من كل حدب وصوب، وقد رفعت خلال التظاهرة لافتات تستنكر الحكمين. ولكن التأييد لم يكن السمة الوحيدة للأصوات (المسيحية) المنخرطة في الأزمة؛ فقد برزت أصوات أخرى، بشكل خاص في تيار العلمانيين الأقباط، تؤيد حكمي المحكمة الإدارية العليا. هذا فضلاً عن موقف الأقباط الإنجيليين الذين يتبنون تفسيرات مختلفة، عن التفسيرات الحالية للكنيسة الأرثوذكسية، لنصوص الإنجيل المتعلقة بالزواج والطلاق.
وكانت المحكمة قد استندت في حكميها إلى لائحة 1938(1) التي صدرت عن المجلس الملي، وتشتمل على أكثر من سبب يبيح الطلاق بين الأقباط، وكانت سارية خلال عهود البطاركة يؤانس التاسع عشر ومكاريوس الثالث ويوساب الثاني وكيرلس السادس، في حين حصر قداسة البابا شنودة أسباب الطلاق في سبب واحد فقط هو الزنى منذ أن أصبح بطريركًا في عام 1971. وقد جاء في حيثيات الحكم الصادر في قضية المواطن هانى وصفى نجيب(2) أن "التصريح بالزواج ثانية كنسيا حسبما ورد النص عليه في المادة 69 من لائحة الأقباط الأرثوذكس الصادرة سنة 1938 لا يعدو في حقيقته أن يكون قرارا إداريا يخضع لرقابة القضاء الإداري، ويدخل الاختصاص بطلب إلغائه في الاختصاص المعقود لذلك القضاء بمقتضى المادة (10) من قانون مجلس الدولة الصادر بالقانون رقم 47 لسنة 1972، ولا يمس المعتقد المسيحي، ولا يتصادم مع أصل من أصوله طالما استكمل شرائط صحته وضوابط نفاذه للتيقن من أن الرئيس الديني وهو يباشر اختصاصه في منح أو منع التصريح المشار إليه لم يتجاوز سلطاته المنوطة به بموجب قواعد شريعة الأرثوذكس، وهو ما لا يعد تدخلا من القضاء في المعتقد الديني، وإنما هو إعلاء له لتحقيق مقاصد تلك الشريعة دون خروج عليها أو تجاوز لها". كما استندت المحكمة إلى الحق في تكوين الأسرة الذي يكفله الدستور المصري.
وقال قداسة البابا شنودة معقبًا على الحكم: "الكنيسة القبطية تحترم القانون لكنها لا تقبل أحكاما ضد الإنجيل وضد حريتنا الدينية التي كفلها الدستور. كما تعلن أن الزواج عندها هو سر مقدس وعمل ديني بحت وليس مجرد عمل إداري، والشريعة الإسلامية تقول احكموا بينهم حسبما يدينون وهو ما تقره القوانين الخاصة بالأحوال الشخصية".(3) جاء ذلك خلال مؤتمر صحفي في 8 يونيو 2010 حضره أعضاء المجمع المقدس البالغ عددهم نحو 82 أسقفًا. ولم ينس قداسته خلال المؤتمر أن يتحدث عن عدم تنفيذه لحكم قضائي سابق، أصدرته المحكمة الإدارية العليا قبل عامين(4)، بشأن إصدار الكنيسة تصاريح زواج ثانٍ للأقباط المطلقين، وقال في هذا السياق "المرة اللى فاتت (السابقة) سكتنا فطلعوا الحكم الجديد، لكن المرة دى (هذه) مش (لن) هنسكت". وخلال المؤتمر الصحفي أيضًا طالب رئيس الجمهورية بالتدخل فيما نتج عن الحكم من مشكلات، معتبرًا أن ذلك يختلف عن التدخل في حكم القضاء، بالإضافة إلى مطالبته مجددًا بإقرار القانون الموحد للأحوال الشخصية الذي قدمته الكنيسة للدولة منذ نحو ثلاثين عامًا.
ولم يكد يمض شهر واحد حتى أمر رئيس المحكمة الدستورية العليا في 7 يوليو 2010 بوقف تنفيذ الحكم الصادر عن المحكمة الإدارية العليا بإلزام قداسة البابا بمنح تصريح بالزواج الثاني لمجدي ويليام يوسف – مؤقتًا – لحين الفصل في موضوع دعوى التنازع. وكان قداسة البابا شنودة قد لجأ إلى المحكمة الدستورية ورفع دعوى تنازع؛ طالبا الفصل في النزاع القائم بشأن تنفيذ الحكمين الصادرين عن المحكمة الإدارية العليا، وذلك إعمالا للمادة ‏25‏ من قانون المحكمة الدستورية العليا والتي تنص على تولي المحكمة الدستورية مهمة الفصل في أي واقعة يصدر فيها حكمان نهائيان متناقضان‏(5).‏ حيث أرفق قداسة البابا شنودة بالمذكرة التي قدمها للمحكمة الدستورية نصوص وحيثيات حكم صادر عن محكمة النقض في يناير عام 1979، ويقضي بعدم تدخل الهيئات القضائية في ما يخص شئون الكنيسة الداخلية، خاصة في قضايا الأحوال الشخصية، بالإضافة إلى حكم مماثل صدر عن الدستورية العليا عام 1996 في ذات الشأن(6).
برغم ذلك أصدرت محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة في 22 سبتمبر 2010 قرارًا بإلزام البابا بدفع مبلغ‏150‏ ألف جنيه‏، وذلك كتعويض لمجدي ويليام يوسف الذي أقام دعوى تعويض ضد البابا طالبه فيها بدفع خمسة ملايين جنيه؛ بسبب حرمانه من الحصول علي تصريح بالزواج الثاني من الكنيسة لأكثر من‏ 17‏ عامًا، في حين منحت الكنيسة تصريحًا بالزواج الثاني لمطلقته الفنانة هالة صدقي. وقد أشارت المحكمة إلى أن الدعوى هي "دعوى تعويض عن الأضرار التي لحقت بالمدعي من جراء امتناع الكنيسة عن التصريح له بالزواج الثاني، وليست دعوى تعويض عن الامتناع عن تنفيذ حكم القضاء الإداري‏,‏ وأن ما تقوله الكنيسة عن إمكانية قيام وليم بالزواج الثاني بعد اعتناق مذهب آخر يتعارض مع حرية العقيدة ويعتبر إكراها أدبيا في الدين"‏.‏(7)
*****
الجدل الساخن الذي أثاره رفض الكنيسة لتنفيذ حكمي المحكمة الإدارية العليا، وجهت خلاله اتهامات شتى للكنيسة على غرار أنها تناطح مؤسسات الدولة، وأن رفضها تنفيذ أحكام القضاء يمثل لطمة لفكرة الدولة المدنية وكذلك لسيادة القانون التي يؤكد الدستور في مادته رقم 64 أنها أساس الحكم في الدولة، كما اعتبر الكثيرون أن تمسكها الصارم بموقفها يشير بوضوح إلى أنها باتت بمثابة "دولة داخل الدولة".
 وقد استمر الجدل صاخبًا حتى أصدر رئيس المحكمة الدستورية العليا قراره المؤقت بوقف تنفيذ أحد الحكمين، وبدا أن صاحب الحكم الثاني ينطبق عليه نفس القواعد لتشابه الوضع القانوني. لكن هذا لا يعني أن الجدل قد خفت أو أن الأزمة انتهت، وذلك طالما استمرت معاناة المواطنين الأقباط الحاصلين على أحكام بالطلاق، ويرغبون في الزواج ثانيةً، في حين تتقاعس الدولة عن أداء وظيفتها في تمكينهم من التمتع بأحد الحقوق التي لا يعقل أن يحرم منها إنسان رغمًا عن إرادته، وهو الحق في الزواج وتكوين أسرة. 
بالطبع لا يمكن لأحد المطالبة بإجبار الكنيسة على تغيير معتقدها الديني وتفسيرها لنصوص الكتاب المقدس؛ لكن معاناة المتضررين لا بد أن تجد صدى لدى الدولة؛ فتعمل على توفير الحلول البديلة لهم، والتي قد يكون أبرزها (الزواج المدني) الذي مثّلت الأزمة الحالية لدى البعض مناسبة لطرحه كحل للمتضررين ولغيرهم.
إنها مسألة "حقوق إنسان"(8) رغم أن بعض أعضاء المجلس الملي العام للأقباط قال إنها "ليست لها علاقة بحقوق الإنسان، ما دام الأمر يتعلق بنصوص دينية لا يمكن تجاوزها".(9) ولعل مثل هذا التصريح يذكرنا بموقف المتشددين من العلماء المسلمين والتيارات السياسية الإسلامية عندما يأتي الحديث على ذكر حرية المعتقد وحقوق المواطنة للمرأة وللأقباط! وفي هذا السياق قد يثور تساؤل حول تفاعل الكنيسة مع الدعوة إلى تعزيز حقوق الإنسان والدولة المدنية. فهل كانت تستغلها بشكل براجماتي في مقابل التيارات الداعية إلى تأسيس دولة دينية إسلامية؛ لكنها حين اصطدمت بما يخالف إرادتها، أبدت مرونة في التراجع على حساب حقوق الإنسان؟!
وإلى جانب كون المسألة ذات صلة وثيقة بحقوق الإنسان؛ كان هناك قلق ساور الكثيرين من تأثير رفض الكنيسة لتنفيذ أحكام القضاء على الجهود المبذولة –من قِبَل العديد من المدافعين عن حقوق الإنسان والمثقفين المنتمين لتيارات فكرية متنوعة– بهدف إرساء دعائم الدولة المدنية في مصر. من هذا المنطلق اهتمت (رواق عربي) بهذا الملف الشائك، ودعت عددًا من المثقفين والمهتمين بالشأن القبطي، ومن بينهم علمانيون ورجال دين مسيحيون، إلى المساهمة معنا في هذا الملف وتناول مسألة الكنيسة والأحوال الشخصية للأقباط من زاوية ارتباطها بالدولة المدنية، وذلك على ضوء الأزمة الأخيرة.
وقد استجاب لدعوة (رواق عربي) بالمساهمة في الملف كل من الأستاذة كريمة كمال الكاتبة الصحفية ومؤلفة كتاب (طلاق الأقباط)، والأستاذ سامح فوزي الباحث والناشط المدني، والدكتور القس إكرام لمعي أستاذ اللاهوت ورئيس لجنة الإعلام بالكنيسة الإنجيلية، والقس رفعت فكري راعى الكنيسة الإنجيلية بأرض شريف شبرا. وستطالعون إسهاماتهم بين دفتي هذا العدد.

الهوامش
1.      يمكن الإطلاع على نص اللائحة في قسم الوثائق.
2.      يمكن مطالعة نص الحكم في قسم الوثائق.
3.      يوسف رامز، المجمع المقدس يرفض حكم القضاء بالزواج الثاني للأقباط، صحيفة الشروق، 9 يونيو 2010.
4.   أصدرت المحكمة الإدارية العليا في مارس 2008 حكمًا نهائيًّا بإلزام قداسة البابا شنودة الثالث بإصدار تصريح بالزواج الثاني للمواطنين الأقباط المطلقين، ولكن الكنيسة رفضت تنفيذ الحكم. وقد استندت المحكمة حينذاك إلى المادة 69 من لائحة 1938؛ وقد أثار الحكم ورد فعل الكنيسة جدلا واسع النطاق، لجأت بعده الكنيسة إلى إجراء تعديلات على مواد اللائحة التي استندت إليها المحكمة. وقد شمل التعديل نصوص المواد (٢٦ و٢٧ و٣٨ و٤١ و٤٩ و٥٠ و٥١ و٦٨ و٦٩ و٧٠)، وقد نشرت الجريدة الرسمية "الوقائع المصرية" بالعدد ١٢٦ الصادر بتاريخ ٢ يونيو 2008، نص قرار المجلس الملي العام التابع لبطريركية الأقباط الأرثوذكس بتعديل لائحة الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس. لمزيد من التفاصيل وللاطلاع على التعديلات؛ انظر صحيفة المصري اليوم بتاريخ 5 يونيو ٢٠٠٨.
5.      عماد الفقي، الدستورية توقف حكم الزواج الثاني للمسيحيين، صحيفة الأهرام، 8 يوليو 2010.
6.      مصطفى سليمان، المحكمة الدستورية توقف تنفيذ حكم "الزواج الثاني" للأقباط المصريين، موقع (العربية نت)، 7 يوليو 2010.
7.      حسام الجداوي، المحكمة تلزم البابا بتعويض بـ‏ 150 ألف جنيه، صحيفة الأهرام، 23 سبتمبر 2010.
8.   نشير هنا إلى أن المادة 16 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تؤكد على أن للرجل والمرأة البالغين حق الزواج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين، وعلى أن الأسرة هي الوحدة الطبيعية الأساسية للمجتمع، ولها حق التمتع بحماية المجتمع والدولة.  وهي الحقوق ذاتها التي أكدت عليها المادة 23 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي صادقت عليه مصر في عام 1982، وأصبحت له قوة القانون بموجب المادة 151 من الدستور.
9.   انظر تصريح القمص صليب متى ساويرس في: الكنيسة.. الدولة.. أم القضاء المتهم الحقيقي في أزمة الزواج الثاني للأقباط؟، مجلة روزاليوسف، 12 يونيو 2010.

* مقدمة العدد رقم 55 من مجلة (رواق عربي) التي يصدرها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان. ويمكن الإطلاع على نسخة كاملة من العدد عبر موقع مركز القاهرة على شبكة الانترنت.

1 comment:


  1. تقدم شركة نور الجنة شركة تنظيف بالدمام
    خدمة التنظيف المجالس والشقق والفلل على اكمل وجه وفى الفترة الاخيرة تعد شركة نور الجنة افضل شركة تنظيف بالدمام ونؤكد لكم ان شركة نور الجنة شركة تنظيف فلل بالدمام
    شركة تنظيف شقق بالدمام
    شركة تنظيف مجالس بالدمام
    من الشركات الاولى الموجودة في الدمام في مجال النظافة واصبحت افضل شركة تنظيف الفلل والشقق بالدمام والظهران والاحساء وسوف نظل الاحسن في النظافة حيث ان شركة نور الجنة شركه كشف تسربات بالطائف
    لديها انواع ممتازة جيدا من المنظفات ..... ..... ..... ... ..... ........ ..... ... ... ..... ..... ......اتصل بناشركة عزل خزانات بالطائف

    وشركتنا افضل شركة تنظيف قصور وفلل بالدمام لما تقدمة من خدمات مميزه من شركة تنظيف بالدمام والاحساء والجبيل والخبر.
    الشركة المميزة في التنظيف والاعمال الخاصة شركة كشف تسربات بمكة
    شركة مكافحة حشرات بمكة
    شركة نقل اثاث بمكة
    شركة تنظيف بمكة

    نستخدم انواع ممتازة من النظافة اللي عندها القدرة على تنظيف اي نوع من انواع التنظيف والبقع العنيدة
    افضل شركة تنظيف بالدمام
    شركة نور الجنة
    نحن افضل شركة تنظيف فلل وشقق ومنازل وبيوت بالأحساء والدمام
    الشركة الوحيدة في تنظيف الفلل والشقق وجميع الخدمات في مجال التنظيف الشركة الوحيدة التي بحسن عمل في التنظيف.شركة تنظيف مجالس بخميس مشيط
    شركة تنظيف منازل بخميس مشيط
    شركة عزل خزانات بخميس مشيط

    يوجد لدينا جميع العاملين الذين يعملون في مجال التنظيف الفلل والشقق والمجالس والواجهات الزجاج وجميع ذلك في التنظيف
    لدين عمال مدربون على اعل مستوى في التنظيفشركة تنظيف فلل بالقطيف
    شركة تنظيف شقق بالقطيف
    شركة تنظيف مجالس بالقطيف

    يوجد لدين انواع ممتازة جدا من المنظفات التي عندها القدرة على التنظف البيوت وتنظيف المنازل وتنظيف المجالس وتنظيف القصور وتنظيف الشقق وتنظيف الواجهات وتنظيف المسابح وغير ذلك
    كمان نستخدم اجهزه وادوات تساعد على التنظيف الفلل والشقق والتي تساعد على الحصول على افضل النتائج في التنظيف من خلال شركة نور الجنةشركة عزل خزانات بالدمام
    شركة نقل اثاث بالدمام
    شركة عزل خزانات بالدمام
    شركة نقل اثاث بالدمام
    شركة مكافحه حشرات بالدمام

    ReplyDelete