Wednesday, August 11, 2010

مصر في ضمير محمد السيد سعيد


"آن الآوان لوقف عذابات هذا البلد وإنهاء بؤسه وضعفه.. آن الآوان لأن نمنح هذا البلد مناعة حقيقية ضد غوائل الزمن وافتراء الطغاة من الداخل والخارج.. آن الآوان لأن نقطع دابر اليأس ونعيد الأمل ببريقه وروعته إلى مصر والمصريين.. آن الآوان لأن نستعيد لمصر سعادتها ومجدها وسؤودها.. وأن نصنع مستقبلاً يليق بالبلد الذي ولدت فيه الحضارة، وابتدأ فيه التاريخ" 
 
                            محمد السيد سعيد
بريشة الفنانة سلوى فوزي - صحيفة الأهرام

كان الدافع وراء الجهد الذي بذله الدكتور سليم حسن في تقديم ترجمته الرائعة والمُحكمة لكتاب "فجر الضمير" ذائع الصيت لجيمس هنري برستيد والذي صدر في ثلاثينات القرن المنصرم؛ هو أن يقدم لقارئ العربية بحث علمي رصين لمؤرخ مخضرم درس حضارات الأمم الشرقية القديمة كلها، وانتهى إلى أن مصر هي منبت نشوء الضمير والبيئة الأولى التي نمت فيها الأخلاق، وأنها (مصر) أصل مدنيات العالم ومهد الحضارة.


صدرت ترجمة "فجر الضمير" إلى اللغة العربية في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين. وبعد مرور عدة عقود، وفي الوقت الذي كانت فيه شمس القرن تتهيأ للغروب، ويستعد العالم لدق باب ألفية جديدة بكل ما تحمله من أمل لكثير من الأمم والشعوب في مستقبل يقيم قطيعة مع ميراث التخلف والاستبداد، في ذلك الوقت كان محمد السيد سعيد المفكر والباحث المصري يقضّ مضجعه ما يطالعه من منجزات هائلة للمجتمعات المتقدمة التي تنتشي بما حققته في مجالات السياسة والاقتصاد والتنمية والفنون والعلوم الطبيعية والإنسانية والتطور التكنولوجي، كثمرات للديمقراطية والحرية والعدالة وتعزيز الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. في حين أن مصر، مهد الحضارة وفجر الضمير، تعاني من وطأة التخلف والفقر، بما يجعلها عرضة لمزيد من التهديدات والمخاطر التي تحيط بها في ظل نظام دولي غاشم وشديد القسوة، يهيمن عليه الأقوياء والأغنياء.
كان مفكرنا سعيدًا دون شك بمنجزات العلم التي تصب في رصيد تقدم البشرية وسعادة الإنسان وصون كرامته، لكن ما كان يؤرقه هو التدهور الذي يتبدى في أحوال مصر. كان مهمومًا بمعاناة أبنائها الذين لم تسمح لهم تركة الاستعمار والاستبداد والظلم، بأن يطلقوا العنان لطاقاتهم وأن يستكملوا ما شيده أجدادهم من حضارة عظيمة، ابتدأ عندها التاريخ، وظلت لحقب طويلة في الزمن السحيق شعلة المعرفة والحكمة والضمير، التي أضاءت الطريق لكثير من الحضارات الأخرى، قبل أن يصيب المجتمع المصري الوهن والخمول، الأمر الذي نتج عنه انكماش وهج إسهاماته المعرفية والعلمية، وانحسار بريق حضارته في العصور الحديثة ليظل مدفونًا في بطون كتب التاريخ القديم لا يغادرها.
 
ما العمل؟
للإجابة عن هذا التساؤل المسكون بهاجس القلق على مستقبل مصر؛ وضع محمد السيد سعيد، بمشاركة كوكبة من الباحثين والأكاديميين والأدباء، كتابًا بعنوان "حكمة المصريين"، وصدر في العام 2000 عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، ليحوز جائزة الدولة التقديرية. وحمل الكتاب بين دفتيه رؤية سعيد الخلاّقة التي برز فيها إلمامه الواسع بتاريخ الحضارة المصرية، واستيعابه العميق لإسهامات المؤرخين العظام أمثال بريستيد وحسن. فقد راح يجتهد في التنقيب فيما هو متاح من صفحات التاريخ لتحديد سمات ومعالم الشخصية المصرية التي تشكلت عبر الزمن، وبرع في استكشاف أسباب الضعف والقوة في المجتمع المصري المعاصر، ليصوغ في النهاية مقترحه لخروج مصر من مضمارها المأزوم بالتخلف والاستبداد، والدخول إلى القرن الحادي والعشرين واستعادة مجدها التليد، مؤكدًا على أن "أية صيغة اجتماعية تهمل القضية السياسية وتحديدًا قضية الديمقراطية والحريات العامة سيكون مصيرها الفشل".

لم تكن مساهمة سعيد نص جديد في التاريخ، بل تأمل عميق في مظاهر تحولاته الكبرى، وكانت محاولة لصنع المستقبل بوساطة قراءة عميقة في تاريخ هذه الأمة. وتجدر الإشارة إلى أن سعيد لم ينهمك في محاكمة الماضي، بقدر ما كانت رغبته مستعرة في البحث عن سبل نجاة مستقبل هذا البلد من مصير مخيف، لن يتفاداه المصريون سوى بالاستفاقة السريعة من غفوتهم التي طال أمدها. ورأى أن الجهد المطلوب منهم للقطيعة مع الفقر والتخلف والضعف، والوصول إلى الكفاية والتقدم والعزة، هو جهد خارق يكاد يبلغ حجم الفعل الحضاري الأول الذي أسس الحضارة المصرية، والحضارة الإنسانية بشكل عام.
كيف تتهيأ مصر للمستقبل؟
      قبل أن يتطرق سعيد لمقترحه لمشروع النهضة القومية، قام باستعراض المتغيرات العالمية الكبرى التي يمكنها التأثير على مكانة مصر واختياراتها في العالم وفي مجالها الحيوي العربي خلال القرن الحادي والعشرين، وبدا سعيد وكأنه استحال إلى العين التي يبصر بها الوطن تعقيدات المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية العالمية، ليضعها في حسبانه وهو يتقدم بخطى ثابتة نحو المكانة التي لا يستحقها سواه. وفي سبيل ذلك تأمل سعيد ثورة تكنولوجيا ما بعد الصناعة ودورها في تأسيس نمط جديد للاقتصاد لم تكتمل معالمه بعد، وكذلك التوسع الكبير في التشريع الدولي، وعدم تحقيق العولمة للمساواة بين الأمم بشكل عادل، في ظل التحديات التي تخلقها للدول الفقيرة والضعيفة. واهتم سعيد بالمسئولية المشتركة للإنسانية، مثيرًا ذلك التناقض الهائل بين الإمكانات والموارد الوفيرة على مستوى الكوكب، وبين اتساع نطاق الفقر وتضاعف عدد البشر الذين يفتقرون للإحتياجات الأساسية في جنوب العالم. كما رأى أن الإخفاق في تحقيق العدالة لم يكن على مستوى توزيع الموارد والثروات فحسب، بل إنه امتد إلى فشل المجتمع الدولي في إنهاء حروب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، واستمرار الحروب الدينية والعنف بين الشعوب، باسم الدفاع عن الهويات، والتي يقع المدنيين والأبرياء ضحايا لها؛ كنتيجة لغياب التطبيق الصارم والنزيه للقانون الدولي، والمعايير المزدوجة. كما أشار سعيد إلى ظاهرة الاستعمار عن بعد، والتي تنتج عن تنامي الفجوة الهائلة بين الدول القوية والمتفوقة وبين الدول الضعيفة والفقيرة؛ حيث تتحكم الأولى في مقدرات الثانية وشئونها الداخلية ومواقفها الخارجية، دون الحاجة للاحتلال العسكري.
 كذلك عبّر سعيد عن آماله في أن تشهد البشرية تنظيم سياسي عالمي جديد، عن طريق تطوير وإصلاح منظمة الأمم المتحدة، وتمكينها من لعب دور "الحكومة العالمية". إلا أنه لم يغفل وجود عوامل الإحباط المتمثلة في رغبة الدول المتقدمة وعلى رأسها الولايات المتحدة في تأسيس نظام عالمي يخضع لهيمنتها، في ظل تقاعس وعجز دول العالم الثالث عن إنتاج بديل يمكنه إنقاذ وإصلاح الأمم المتحدة. ورغم ذلك لم يحل ذلك الإحباط بينه وبين تأمل نشأة ما وصفه بالتطور التقدمي الذي يتمثل في "بزوغ الوعي بوحدة المصير الإنساني والحاجة لتعميق التفاهم بين الشعوب والنضال المشترك من أجل الارتفاع بنوعية الحياة على الكوكب الأرضي". واحتفى سعيد بتكون "الأخلاق العالمية" التي تبرز في احترام حقوق الإنسان وكرامته، دون أن ينسى أن هذه القيم لم تحقق الانتصار الكامل في أي أمة، حيث تظل المصالح هي الموجه الرئيسي للسياسة الداخلية والخارجية، وعوَّل على أن وجود تنظيم سياسي عالمي فعَّال هو الضمانة اللازمة لتحقق هذه القيم والأخلاق.
ولذلك حرص سعيد على رصد فورة التحوّل الديمقراطي التي اندلعت في عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، ورأى فيها تعبيرًا عن الرغبة العميقة في استيعاب منجزات الديمقراطية بين مختلف الشعوب على اختلاف ظروفها الاقتصادية والاجتماعية ومنزلتها الحضارية. إلا أنه لم يكن يرى ضرورة "تقليد" نظام الحكم الديمقراطي في الغرب، بل عبر عن توقه إلى إنتاج معانٍ جديدة للممارسة الديمقراطية، بأن يكون المجال مفتوحًا أمام جماعات بشرية مترابطة للقيام بتدبير أمورهم فيما بينهم بالتوافق والقبول الطوعي والذي يسمى بالمجتمع المدني. ووضع شرطًا رئيسيًا لإنجاز هذه النقلة النوعية، وهو نشأة المواطن ومبدأ المواطنة وتمتع حيز معين من الحقوق الخاصة بمناعة ضد انتهاكات الحكومات والسلطات، مقابل اضطلاع هذا المواطن الذي يحظى بحماية عالمية وقومية بالتزام قانوني وأخلاقي أمام العالم، وهو ما يطلق عليه "المسئولية المدنية".
في خضم هذه الخريطة العالمية المعقدة والمتشابكة، كان سعيد يرى أنه على مصر، التي يفرض عليها قدرها وعلى غيرها استحالة تهميشها، أن تضطلع بدورها. لكنه ظل واقعيًا وهو يؤكد أنه لا توجد امتيازات مجانية، حيث أن على مصر بذل جهد هائل لمعالجة انكماش دورها واسترداد قوتها السياسية وعنفوانها الاقتصادي وريادتها الثقافية والحضارية.

ينبغي أن تسترد مصر عافيتها أولاً
حاول سعيد رصد مؤشرات الأداء القومي المصري في الساحة العالمية، وانتهى إلى تحديد جودة وقوة هذا الأداء في ثلاث مستويات، حيث وضع الأداء في المجال الثقافي والإبداعي في المرتبة الأفضل، ثم الأداء في المجالين السياسي والاجتماعي الداخليين في المرتبة الثانية، ثم الأداء في المجال الاقتصادي الذي احتل المرتبة الأخيرة. الرصد الموضوعي لمؤشرات الأداء، دفع سعيد إلى تحديد نقاط القوة التي حدد وفقها مستويات الأداء من حيث الأفضلية والإخفاق بشكل عام، كما أن الموضوعية اقتضت منه الانتباه للجوانب السلبية التي شابت كل المجالات بما فيها الأكثر جودة.
في المجال الثقافي، يرى سعيد أن المصريين تمتعوا لفترات طويلة بقدر مدهش من الانسجام والتجانس، الناجم عن توافر عدد من القيم الإيجابية مثل التسامح وعمق مشاعر الخير وبغض العنف والترابط الأسري والتدين السامي والتكافل الاجتماعي. إلا أن هذه الصورة المبهجة أخذت في التآكل خلال العقود الأخيرة، وهو ما تزامن مع تراجع مساحات التسامح وتمدد نطاق التعصب والجمود الديني الذي تمخض عنه الإرهاب الذي أحال حياة المصريين إلى جحيم خلال نهايات القرن العشرين. كما تصاحب الاستلاب السياسي مع انحسار الاهتمام بالشئون العامة، والميل للانغلاق على الذات، وضعف الشغف بالمعرفة والقراءة وتراجع تذوق الآداب والفنون، وانتعاش النزعة الاستهلاكية في ظل غياب الثقافة الاقتصادية.
وفي المجال السياسي والاجتماعي، يحيل سعيد عدم مقدرة التطور السياسي على تأسيس قاعدة قوية للمواطنة، إلى اختلال التوازنات "بين الدولة والمجتمع، وبين الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وبين الحاجة لاستنفار وتعبئة كل قدرات المجتمع وتوحيده من أجل تحقيق النهضة والإقرار بالحاجة إلى التنوع والتسامح والتعدد الفكري". واتهم سعيد الطابع اللاديمقراطي لثورة يوليو 1952 بالتسبب في عدم التمكن من خلق مجتمع مدني حقيقي، ينشأ على حقوق المواطنة والمشاركة المتساوية في إدارة الشئون العامة والمساءلة. وهو الأمر الذي ترتب عليه إزهاق روح المشاركة، وافتقاد المجتمع لآليات النقد والمحاسبة، والتمويه على المشكلات بدلا من وضع الحلول لها. كما أن عملية التحول إلى نظام سياسي تعددي والتي بدأت في السبعينيات، لم تصل إلى صيغة دستورية ديمقراطية كاملة. ولا تتجاوز الحياة السياسية الحقيقية المناظرات في الصحف، وانحسرت المشاركة السياسية بسبب عدم تداول السلطة والشك في نزاهة الانتخابات، وتحولت الأحزاب إلى مجرد مقار وصحف، وتعطلت العديد من النقابات المهنية، في ظل عدم وجود مؤسسات سياسية قادرة على استيعاب طاقات الجماهير وتطلعاتها عبر قنوات رسمية مشروعة.
أما في المجال الاقتصادي، فيرى أن الأداء القومي قد تردى وعجزت مصر عن اللحاق بكثير من الدول في مجال التنمية الاقتصادية، وفشلت في القضاء على الفقر، وهو ما أرجعه سعيد إلى ركود الزراعة والقصور في التصنيع، وعدم القدرة على الاستفادة من العقول المصرية الممتازة. وفي حديثه عن إصلاح الأداء الاقتصادي قال سعيد إن إنجاز ثورة صناعية وتكنولوجية والنهوض بالاقتصاد يعتمد على الثقافة أكثر مما يحتاج للمال، في إشارة إلى ضرورة تغيير أنماط الاستهلاك، والتركيز على تنمية القطاع الصناعي واستعادة الاهتمام بالزراعة، بما يفسح المجال لتحقيق النهضة الاقتصادية المرجوة، والتي لن تقوم للمصريين قائمة دون إنجازها.
كما يؤكد سعيد على أن الأطروحة المصرية لابد وأن تشمل رؤيتها لمستقبل العالم بأسره، وليس مستقبل الأمة فحسب، وبخاصة صورة الإقليم العربي. وأن طموح مصر القومي ومشروعها للمستقبل "لابد وأن يطرح مسألة تصفية النظام الاحتلالي العنصري في إسرائيل، وإيجاد حل للصراع العربي الإسرائيلي يقوم على مبادئ العدل، ويمكِّن الشعب الفلسطيني من ممارسة حقوقه السياسية والتاريخية بدون انتقاص". لكن المفتاح الحقيقي لهذا النضال لابد وأن ينهض على بناء مستقبل مصر ذاتها؛ فلا يمكن أن تساهم مصر في تحقيق العدالة والقضاء على الفقر على المستوى العالمي وتفعيل المسئولية المشتركة للإنسانية، في حين أنها هي ذاتها تفتقد لأوعية المشاركة وآليات العدالة، وللإطار الديمقراطي الضامن لأداء المسئولية الوطنية المشتركة، وللسياسات النشطة للقضاء على الفقر محليًا.
لامبالاة المصريين والمجال السياسي المشوّه
كانت ثقة سعيد عظيمة في قوة الاعتبارات الأخلاقية التي وسمت سلوك المصريين عبر التاريخ. كما رأى أن الدوافع الأخلاقية المتعلقة بالتعامل مع الآخر فيما بينهم، لعبت الدور الأهم في تمتعهم بالتماسك، ربما بدرجة أكبر من دور التجانس الثقافي والاجتماعي. وفي حين أبدى إعجابه بقدرة المصريين المدهشة على تحمّل الشدائد، واستعدادهم الفطري للتضحية، إلا أنه انتبه كذلك إلى أن هذه الصفة لم تكن إيجابية على الدوام؛ حيث أفضت إلى مظاهر الاستلاب الاجتماعي ولا مبالاة المصريين بالشأن السياسي.
من أبرز ما رصده سعيد من مظاهر الخلل الهيكلي في بنية المجتمع المصري، هو ما أطلق عليه الخلل بين المجالين السياسي والمدني أو بين المجالين العام والخاص؛ حيث يحوز الاهتمام بتفاصيل العلاقات الاجتماعية والشخصية، قدرًا أكبر منه في المجال السياسي والعلاقة بين الدولة والمجتمع وبين الحاكم والمحكوم، وكيفية إدارة وتنظيم شئون الحكم. وهو ما تسبب برأيه في ضعف وتراخي الفكر السياسي والقانون الدستوري لفترات طويلة، باستثناء العصر الحديث. ورأى سعيد أن هذا أدى بدوره إلى تحلل الدولة من القيود القانونية الصارمة في علاقتها بالمجتمع، مقابل توغلها هي ذاتها في نسيج المجتمع بناءً أو تدميرًا.
وكانت له ملاحظة غير معتادة في رصد نتائج السلبية السياسية للمصريين على مدار تاريخهم الطويل؛ إذ لم ير أن هذه السلبية قد ضمنت للحكم الاستقرار دومًا، بقدر ما ساهمت في اضطراب بنية الحكم ذاته. ففضلاً عن أن تاريخ المصريين افتقد وجود آلية مناسبة لمشاركتهم في المجال العام، فقد حرموا أيضًا من توافر آليات مستقرة لتولي السلطة ولتداولها، حتى بلغ الأمر حالة من العبث السياسي غير المألوفة تجسدت بصورة واضحة في العصر المملوكي، ما جعل سعيد يخلص إلى أن لامبالاة المصريين، في ظل غياب آليات محددة للتداول السلمي للسلطة، لا تكفي وحدها لتضمن لنظم الحكم بقاءً سرمديًّا.
إلا أنه يعود ويؤكد في مرارة شديدة أن بصمات هذا الخلل الجسيم يمكن ملاحظتها بقوة في عصرنا الحالي؛ حيث يقل اهتمام المصريين بالشأن العام، كما لم يدركوا بعد أن حقهم في محاسبة الحاكم هو أصيل لهم، في حين استغلّت الدولة هذا الخلل في الجور على حقوق المصريين وحرياتهم، والنظر إليهم "كعبيد إحساناتها"، وانتهينا إلى الموقف الذي تصبح فيه السلطة تظل تتولّد عن السلطة وليس عن الشعب.
وبالتالي فقد وضع سعيد يده على مكمن الخلل وعلة العجز المزمن الذي طالما أصيبت به آلة الحكومة في تسيير شئون المجتمع، ألا وهو عدم اتضاح قواعد الشرعية، ووقوع أجهزة الدولة أسيرة لمصالح وقوى متعارضة، وتركيز سلطة الحكم في قبضة شخص واحد هو الفرعون الذي يتولى الحكم عن طريق الوراثة. وعلى الرغم من إشارة سعيد إلى أن العقد الاجتماعي والسياسي الجوهري الذي كان بمثابة القلب من الثقافة السياسية المصرية هو "مبادلة بين السلطة المطلقة للحاكم من ناحية وإقامة ونشر العدل بين الناس من ناحية أخرى"؛ إلا أنه يؤكد أن هذا العقد لم تتوافر له آلية تديره وتصونه وتحاسب الحاكم. وهو ما أدى في أحيان كثيرة إلى أن يصبح المجال مفتوحًا أمام الحكام لممارسة الظلم وانتهاك شروط هذا العقد غير المكتوب، وهم آمنين من العقاب. لكن قراءة سعيد للتاريخ المصري تؤكد أن هذا لم يمنع تكرار الهبَّات والثورات الشعبية على مؤسسات الحكم الجائرة في فترات متباينة. ويحيل سعيد الأزمات والاضطرابات التي واجهها نظام الحكم، إلى غياب الشعب وممثليه عن نظام الحكم في جميع عصور التاريخ السياسي، مشيرًا إلى أن ما أطلق عليه "الحضور المفاجئ" للشعب عن طريق الثورات الشعبية أو النضال العسكري ضد الغزاة، لم يتبلور حتى الآن في صيغة عقد سياسي جديد. 

الوحدة تتحقق عبر الاعتراف بالتنوع
أبدى سعيد كذلك تقديرًا لتأثر وجدان وأخلاق المصريين على مدار التاريخ بالدين، حيث لم يتعاملوا مع الدين باعتباره مجرد تفسير للكون، وطريق إلى الحياة بعد الموت، وإنما نظروا إليه أيضًا باعتباره مرشدًا في شئون الحياة. لكن هذا لم يمنع سعيد من رصد أسباب الخلل في الموازنة بين شئون الدين والدنيا في مراحل عديدة من التاريخ. حيث لاحظ أن فترات الخلل هذه تزامنت مع هيمنة المؤسسات الدينية على الحياة العامة، لا سيما في المجال السياسي، بالإضافة إلى ما يطرأ حينها من تبدلات دراماتيكية في فهم الدين، فتسيطر النزعة الشكلية والطقوسية ويغيب التسامح وتتراجع القيم الروحية. ومن ثم يصبح اللجوء إلى العنف وسيلة شائعة في فرض رؤى بعينها للدين والدنيا معًا. فتصبح سيادة روح الجمود الديني شرطًا لصعود نجم المؤسسات الدينية، وهو ما يصاحبه بالتالي اضطراب شئون الحكم والشئون العامة. هنا أيضًا يوضح سعيد نفوره من تديين المجال العام، أو إضفاء الصبغات الدينية على الحركات المطالبة بالإصلاح والتغيير، ويؤكد عدم جدواها؛ حيث لاحظ أن الحراك من أجل وحول التغيير في تاريخ مصر، حين اتخذ شكلاً دينيًا صرفًا، لم يفض إلى أية إصلاحات حقيقية، بل ولم ينقذ البلاد من الغرق في الاضطرابات أو الوقوع في أسر الاستعمار.
وإذا كانت فكرة التعددية والمواطنة والوحدة بين المواطنين تشغل أذهان الكثير من الباحثين وعلماء الاجتماع السياسي، باعتبارها قضايا خاصة بالعصور الحديثة فحسب ولم يكن لها جذور في التاريخ القديم، فإن سعيد كان له رأي مغاير؛ فقد أشار إلى أنها كانت قضايا مطروحة في مصر القديمة. وأشار إلى أن العبقرية المصرية تمثلت في أنها جعلت التنوع الذي يشمل كافة شئون الحياة، بما فيها الدين وسلطة الحكم، هو طريقها للوصول إلى الوحدة. فلم يكن لدى المصريين عقيدة واحدة ثابتة، بل أنتجوا صيغة فريدة مزجوا فيها بين العقائد الدينية المختلفة، والآلهة الموزعين على شتى أنحاء البلاد. وهو ما أطلق عليه سعيد نجاح المصريين في "تحقيق الوحدة عبر الاعتراف بالتعدد وتقنينه"، وهو تعبير صاغه سعيد ببراعة، ليفسّر تمكّن المصريين من نسج وحدتهم الوطنية خلال فترات طويلة من الزمن، رغم تعدد دياناتهم ومعتقداتهم. وهو ما ساعد مفكرنا الكبير على تفسير ما نعاينه خلال العقود الأخيرة من انحسار قدرة مصر على صهر وتوحيد العناصر الثقافية المتنوعة، في مواجهة موجات التعصب والعنف الديني، وتجدد حوادث الفتن الطائفية، والتصدع في السبيكة القومية للمصريين من أتباع الديانتين الكبيرتين، الإسلام والمسيحية؛ حيث يرجع سعيد ذلك إلى "الخلل في العلاقة بين الوحدة والتنوع". ويلاحظ سعيد أن الفترات التي عجز فيها المصريون عن القيام بمهمة التوحيد والتأليف بين عناصرهم الدينية والاجتماعية لمواجهة موجات الطائفية، هي ذات الفترات التي شهدت اضمحلال التكوين الحضاري المصري. وفي هذا السياق لا يخفي قلقه من التبدل الطارئ على أخلاق المصريين في العقود الأخيرة، وذعره من أن يؤدي تفاقم التوترات الطائفية بين المصريين، إلى تصدع سبيكتهم وأن يدفعهم التمييز فيما بينهم إلى إنكار التنوع وبالتالي ضياع الوحدة.

الإنسان هو الأصل
إن تحقيق التقدم والتنمية اللذان ينشدهما سعيد لمصر، هو عملية يقع الإنسان في القلب منها؛ فهو غايتها وهدفها. ويرى أن الترجمة الحقيقية للتقدم تتضح في تمتع الفرد بالحرية وبحقوق الإنسان، وفي مقدمتها حريات الضمير والاعتقاد والتعبير والتجمع والمشاركة السياسية، وأن يبلغ احترام وصيانة كرامة الإنسان درجة التقديس. كما رأى أن إحياء وبعث المواطنة هو مفتاح إنقاذ البلاد من براثن التخلف وإطلاق سراح طاقاتها وإمكاناتها، وأن ذلك يكون عبر تحقيق الاندماج القومي والسلام الاجتماعي بين مواطنين لهم انتماءات دينية وجغرافية متباينة. وبالتالي، فإن مقدمات ومداخل صناعة مستقبل مصر، لا بد وأن تتوافر لها استراتيجيات ديمقراطية؛ عن طريق إجراء حوارات موسعة بين جميع القوى الفكرية والسياسية وتحفيز المجتمع للمشاركة في هذه الحوارات. وركز سعيد على خمس أفكار يرى فيها مداخل ضرورية لصنع المستقبل المرجو لمصر، وهي الاهتمام بالتنمية البشرية والاستثمار في الإنسان، وتوفير الموارد اللازمة للإنطلاق في مجال البحث العلمي والتطوير التكنولوجي كقاطرة للنهوض الاقتصادي، والإصلاح الدستوري الديمقراطي وتفعيل مبادئ الشفافية والمحاسبة، إفساح المجال أمام المبادرات الأهلية وتفعيل دور المجتمع المدني، وبناء مجتمع التكافل بتحقيق المساواة في فرص النمو والتنمية بين المناطق الجغرافية والطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة.
غلاف العدد التذكاري من مجلة رواق عربي الذي خُصّص لرئيس تحريرها المؤسس د. محمد السيد سعيد

ويطرح سعيد الديمقراطية بوصفها "حلاً أوليًّا" لإشكاليات المجتمع هذه، لكنه يرى أن الحل الديمقراطي ليس حلاً نهائيًا، آخذًا في الاعتبار ظهور تحديات جديدة، تتم معالجتها بأن تقوم مؤسسات تنتشر في كل مستويات الحياة الاجتماعية بتطبيق آليات الديمقراطية، وتقوم بتعبئة المجتمع لحل المشكلات، وتعمل على تقديم الحلول السلمية، وتفتح المجال أمام كل الرؤى ووجهات النظر لممارسة حرية التعبير. وفي هذا السياق طرح سعيد تعريفه للتقدم الثقافي والسياسي بأنه "القدرة على إبداع وتصحيح مسار مؤسسات عامة؛ مدنية وسياسية، للتعبئة وصيانة الاندماج الاجتماعي والوحدة الوطنية وتجديد أسسها بصورة مستمرة".
لقد كانت قضية حقوق الإنسان بالنسبة لسعيد هي قضية حياته، ولا عجب أنه يرى في تعزيزها وصونها الأساس المتين لتحقيق التقدم والنهضة لمصر والمصريين. وهو ما وجهه لملاحظة أن مراحل الصعود والمجد القومي والتفتح الحضاري في مصر، كانت شاهدة على احترام إنسانية وكرامة المواطن المصري، في حين أن مراحل الانحطاط والتحلل الحضاري قد تزامنت مع استباحة كرامة المصريين، وحرمانهم من الضمانات القانونية والفعلية التي تؤمنهم ضد العسف والاضطهاد؛ فإنه في النهاية أكد في وضوح على ضرورة التكامل بين مسارين غاية في الأهمية لمستقبل مصر المنشود، وهما تعميق الاندماج القومي، وتمتع المصريين بحقوق الإنسان وصيانة كرامتهم وحرياتهم العامة والشخصية.
كانت تلك وصية سعيد التي كتبها لبلاده قبل أن يغادر عالمنا بنحو عشرة أعوام، ورغم كل التطورات والمتغيرات التي طرأت على الأوضاع الداخلية وفي العالم الخارجي، إلا أنها لا تزال رؤية صالحة للتعاطي معها والاستفادة من التحليل الذي قدمه لنا صاحبها، الذي كان مسرورًا بما لاحظه من أن اللحظة التي تستعد فيها مصر لوداع القرن العشرين، كانت تشهد انشغال أبنائها بالبحث عن مخرج يقيل البلاد من عثراتها، ويكون بمثابة الوسيلة لإنجاز التحول الديمقراطي الذي تستحقه. وهي اللحظة التي لم تتجاوزها مصر بعد، رغم أننا نوشك على وداع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
كان (برستيد) قد قال عن كتابه فجر الضمير: "لا بأس أن يكون ذلك قاعدة لأحلام ضحى لا يزال في الواقع بعيدًا جدًا عنا ولكنه لا محالة آتٍ وراء ذلك الفجر". وعندما نتأمل الميراث الفكري الغزير لسعيد، والذي اتسم بالجدية وطزاجة الأفكار وتباين ميادين الاهتمام وعمق الطرح والنزعة الانسانية، بما يجعله بحاجة إلى جهد فريق كامل من الباحثين لقراءته وتحليله؛ حينها فقط ربما يتضح لنا أن محمد السيد سعيد كان شعاع من نور ذلك الضحى الذي تحدث عنه برستيد، أو بشارة الخير بدنو ذلك الأمل.


*نُشر في العدد رقم 53 من مجلة رواق عربي، وهو عدد تذكاري خاص برئيس تحريرها المؤسس المفكر المصري الراحل الدكتور محمد السيد سعيد.

No comments:

Post a Comment