Tuesday, August 17, 2010

في النظر إلى أزمة دارفور: هل ما أصابنا ازدواجية معايير أم مسّ من العنصرية؟


منذ عدّة أعوام كتب صحفي أمريكي يدعو إلى إرسال عدة طائرات لتقوم بنقل جثث مئات الضحايا من دارفور إلى الأمم المتحدة، ودفنهم في واحدة من الولايات الأمريكية "تذكيرًا بلامبالاة العالم، وللتذكير بأنّها أوّل إبادة جماعية وقعت في القرن الواحد والعشرين"! وإمعانًا في السخرية طالب الصحفي في مقاله بـ "تذكير العرب بأنّ قتل مئات الآلاف من المسلمين في دارفور يتطلّب الاحتجاج أيضًا".


ربّما لا يعلم الصحفيّ أنّ الكثير من المسلمين قد يجهلون أنّ المدنيين الذين تساقطوا (وما زالوا يتساقطون) منذ بداية النزاع المسلَّح المستمر بين المتمرّدين والميليشيات المدعومة من الحكومة السودانية، هم من المسلمين. إنّ أهل دارفور – الذين قد يصفهم لك أيّ سائق تاكسي يعتمد في معلوماته على نشرات المقاهي الإخبارية، وهو يهزّ كتفيه في لامبالاة بأسوأ النعوت، قبل أن يفسِّر ذلك ببساطة متناهية، وهو يتذكّر بشرتهم السوداء الداكنة، بأنّهم "وثنيون عملاء" – هم في الواقع من أكثر أهل السودان احتفاءً بالقرآن ورعاية وحفظًا لـه؛ حيث تنتشر في ربوع دارفور بيوت القرآن المسمّاة بالخلاوي، والتي دأب الدارفوريون على تكريم خريجيها من حفظة القرآن، بدءًا من إغداقه بالمال وحتى تزويجه بواحدة أو أكثر، بل إنهم لا يطلبون مهرًا من حافظ للقرآن.
لم تصل بعد المجتمعات العربية والإسلامية إلى مرحلة من التطوّر الإنسانيّ، تدفعها إلى التعاطف مع أصحاب الألم والمعاناة، بغضّ النظر عن اختلاف الدين أو الجنس. ورغم ذلك فإنّ تقارير المنظمات الحقوقية التي رصدت سفك دماء المسلمين، وتشريد مئات الألوف منهم واغتصاب بناتهم في دارفور، لم تطرف لها أجفان الحكام والشعوب في الدول العربية والإسلامية، ولو حتى بمظاهرة تطالب بمحاسبة وعقاب المسئول عن الكارثة الإنسانية المتفاقمة هناك، وهذا أضعف الإيمان. المظاهرات الوحيدة التي خرجت كانت تسبّح بحمد النظام الحاكم في السودان وتستعيذ بالله من الشيطان الدوليّ أوكامبو.
المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، لويس مورينو أوكامبو
 
قد لا يستطيع البعض أن يعتب على العرب والمسلمين عدم اكتراثهم بالأزمات الإنسانية التي يعاني منها غيرهم؛ بزعم عدم امتلاكهم رفاهية شعوب وحكومات دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا الشمالية، فلديهم من المشكلات القدر الذي يفيض عن حاجتهم. همجية الجيش الصهيوني في الأراضي المحتلة في فلسطين، مستقبل غامض في العراق تصبغه المجازر اليومية بلون الدم، المقاومة والدولة في لبنان، ومَن قتل مَن في أفغانستان؟!

لكن هل يشفع هذا التعامل لسنوات بدم بارد مع معاناة أهل دارفور من النزوح والجوع والمرض والقتل والاغتصاب، وتجنيد الأطفال للقتال في صفوف الميليشيات. إن أهلنا في دارفور يحتاجون منا لاستنفار الطاقات، وتنظيم المظاهرات، والمؤتمرات، وجمع التبرعات، كما فعلنا مع إخواننا في لبنان وفلسطين. لكن يبدو أنه كتب على أهل دارفور أن يكونوا في معاناتهم محرومين من تضامن الشعوب العربية والإسلامية.

هل ستغدو مجازفة منا لو حلمنا بمطالعة خبر صحفي عن الإعداد لدويتو أو أوبريت لمساندة أهل دارفور؟ هل سيسعدنا الحظّ بمشاهدة فيديو كليب يبكي ضحايا دارفور؟
أم أنّ الأجساد الهزيلة المعدمة ذات البشرة الداكنة التي ينهشها الفقر والتجاهل والمرض، لا تستحقّ من فنانينا الكرام إقامة المؤتمرات الشعبية، والتنديد، وقرض الشعر، وذرف الدموع أمام شاشات الفضائيات؟! 
 
كتب الأستاذ فهمي هويدي في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 5 يوليو 2006 في مقاله سنة العار: "ينبغي ألا نتوقع من الآخرين أن يدافعوا عن حقوقنا أو كرامتنا التي تخاذلنا عن الدفاع عنها. لكن ذلك لا ينسينا أنّ الضمير العامّ في تلك المجتمعات الذي استثاره الحاصل في دارفور، واهتزّ لما جرى في رواندا. قد أصيب بالسكتة غير البريئة حين تعلق الأمر بالعرب والمسلمين (من فلسطين إلى شيشنيا)".

بالفعل لا يستطيع أحد أن يشكّك في ازدواجية المعايير التي يعاني منها المستضعفون في الأرض من المجتمع الدولي، عربًا كانوا أم من غير العرب. لكن ما ذنب دارفور وأهلها؟ هل يؤثمون على الاهتمام بهم وعلى الجهود التي تبذل لوقف الجرائم المتصاعدة ضدهم؟!

إن عدوى ازدواجية المعايير قد أصابت العرب لاشكّ، وكما نرى فإنّ التعليق المكتوب منذ سنوات، والذي يتمّ استنساخ مضمونه بطرائق مختلفة في الإعلام العربي حتى الآن، على اهتمام المجتمع الدولي بكارثة دارفور الإنسانية، قد صيغ بطريقة قد يفهم منها استثناء أهل دارفور من زمرة المسلمين! إن إدانتنا لصمت المجتمع الدولي إزاء جرائم ترتكب بحق إخواننا في فلسطين ولبنان والعراق، يجب ألا تقل بحالٍ من الأحوال، عن إدانتنا لصمت الأقلام العربية والإسلامية (غير البريء) عما يجري لأهلنا في دارفور.

قارنوا في هذا الإطار بين الاحتفاء العربي بالبيان المنفرد الذي أصدره ماركيز منذ   سنوات إعجابا بالصمود الفلسطيني وبغضا للصهيونية، وبين التجاهل الذي حظي به مقال سونيكا الذي كتب فيه عن تخريب حكومة السودان للجهود الدولية لمساعدة وحماية ضحايا النزاع.
جابرييل جارثيا ماركيز

كما يمكنكم المقارنة بين الاهتمام البالغ بتحليل وتفسير ونقد قرارات مجلس الأمن المتعلقة بفلسطين، وبين الجهل المطبق بالقرارات المتعلقة بدارفور. 
تتباين الإحصاءات التي تتناول عدد ضحايا دارفور، وأدناها رقم ضخم لا يحتمل أي ضمير حي تجاوزه، لكن كل هؤلاء الضحايا والمنكوبين لم يحركوا مشاعر الذين سكتوا طوال السنوات الماضية متجاهلين ما يدور في غرب السودان، لكنّ الذي دفعهم للحركة والنشاط والانفعال والكتابة، هو توجيه المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لويس أوكامبو الاتهام لرئيس السودان عمر البشير بالتورط في جرائم حرب ارتكبت في دارفور، وطلب اعتقاله ومحاكمته، بينما وصف واحد من جوقة الدفاع عن البشير، أزمة دارفور بالتافهة ورأيه أنها لم تكن تستحق كل هذا الضجيج.
الرئيس السوداني الملاحق من العدالة الدولية عمر البشير
إنهم يبكون المتهم الذي لم يستطع تبرئة ساحته، وينسون الضحايا.

ومن المفارقات الكامنة في خطاب المناهضين للمحكمة الجنائية الدولية ولمدعيها العام، أنهم في حين يصرون على رفض محاكمة الحكام العرب أمامها، يطالبون، في ذات الوقت، بمحاكمات عاجلة لمجرمي الحرب الإسرائيليين، ويزعمون أنهم بدؤوا الإعداد لحملة قانونية قوية لإحالة مرتكبي جرائم الحرب في حرب إسرائيل الأخيرة على غزة إلي المحكمة الجنائية الدولية. يرفضون قرارات المحكمة وينعتونها بخدمة أجندة المصالح الأمريكية المعادية لنظام السودان المقاوم والممانع، ويطالبون بإحالة مجرمي الحرب الإسرائيليين إليها، أي منطق يحكم هذا الخطاب؟!

يبدو أنّ أزمة أهل دارفور لن تجذب اهتمام المواطنين العرب وقنواتهم الإعلامية، إلا لو كان المسؤول عن جرائم الحرب هناك هو الجيش والميليشيات الإسرائيلية، وليست السودانية. فينبغي أن تكون قضية ضحايا دارفور هي قضية تحرر وطني ومقاومة ضد المحتلّ الأجنبي الغاصب، حتى تأخذ حقها من الانتباه والتآزر مع أصحابها؛ فلا مكان للدفاع عن المدنيين في ظل النزاعات المسلحة داخل أراضينا العربية والإسلامية. خاصة لو كانت الأطراف المسؤولة تُعلن إسلاميتها على الملأ، وتتشدق دومًا بتبنيها لأجندات المقاومات. لكن الإجابة التي قد تكون أكثر إيلامًا، هي أن معاناة السود عندنا لا يمكن مساواتها بمعاناة البيض، حتى لو جاوزت أعداد الضحايا الداكنين أضعاف ما وقع في أزمات أخرى.

في ندوة عُقدت في أعقاب العدوان الإسرائيلي الهمجي على غزة، دار النقاش بين عدد من النشطاء الحقوقيين العرب عن إمكانية تحويل مجرمي الحرب في غزة وفي دارفور إلى المحاكمات الدولية. وبعيدًا عن السجالات القانونية المتوقعة، كان لأحد أبرز الحقوقيين المتحدثين موقفًا له دلالاته الموجعة. حيث رفض بشدة الربط بين أزمتي غزة ودارفور، بشكل بدا منه وكأنه يعتقد أن الاقتصاص لضحايا غزة لن يتم دون تجاهل ضحايا دارفور الذين يتبرأ منهم الجميع، لقد جاء اليوم الذي نكتشف فيه تنصل بعض المدافعين عن حقوق الإنسان من مؤازرتهم.
إنه جدار جديد لم يكن مرئيًا.

نُشر في الأوان في 17 فبراير 2009* 

No comments:

Post a Comment