Saturday, August 14, 2010

البيئة القانونيّة للجمعيّات غير الحكوميّة بمصر

يغيب عن بال الكثيرين الاهتمام بدراسة التشريعات المنظّمة لتكوين الجمعيات الأهلية وتأسيسها، كما نفتقد الالتفات إلى الأهمية البالغة التي تمثلها حرّية الجمعيات، إذ دون توافر الضمانات اللازمة لازدهارهذه الحرية، فإنّ بقية الحريات، أي حقوق الإنسان، ستعاني من الانتهاك والانتقاص،إذ أنّ حرية الجمعيات تُعدّ الرحم المولّد ّلسائر الحريات الأخرى كما قال الفرنسي ألكسي دو توكفيل. في هذا السياق يسعى هذا المقال إلى استعراض البيئة القانونية التي تعمل في إطار الجمعيات الأهلية في مصر، وذلك بهدف الوقوف على مدى جدّية المُشرِّع المصري في الالتزام بالمعايير الدولية الخاصة بحرية التنظيم. 
إذ يؤكد العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في المادة 22 على أنه "لكل فرد حقّ في حرّية تكوين الجمعيات مع آخرين، بما في ذلك حق إنشاء النقابات والانضمام إليها من أجل حماية مصالحه". ورغم أنّ العهد قد منح التشريعات الوطنية الحقّ في صكّ القيود على ممارسة الحقّ في التجمّع، واتّخاذ ما وصفه بالتدابير الضرورية، إلا أنه اشترط أن يتمّ هذا في "مجتمع ديمقراطيّ" وذلك من أجل "صيانة الأمن القوميّ أو السلامة العامة أو النظام العام ّأو حماية الصحّة العامة أو الآداب العامة أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم"، كما لا بد أن ننّوه إلى أن هذا البند لا ينبغي تفسيره في اتجاه تكبيل حرية التجمع والتنظيم.
ويتضح مدى حرص المشرِّع على إفساح المجال للمجتمع المدني وتفعيل دوره، في المرونة التي يتمتع بها أو يفتقد إليها في تقنينه لإجراءات التسجيل، وإلى أية درجة تدنو هذه الإجراءات من الاقتصار على إخطار الجهة الإدارية بالتأسيس، أو من إلزام المؤسسين بالتوجه أولاً إلى الجهة الإدارية للحصول على الترخيص.

فيما يلي سنركز على عدد من المؤشرات الدالة، والتي نزعم أنها تكشف إماّ عن وجود رغبة حكومية في تكبيل نشاط المجتمع المدني بالقيود القانونية التي لا يمكن أن يتحمّلها مجتمع ديمقراطي حقيقي، أو عن قدر من الانسجام بين القانون محل الدراسة والمعايير التي يطرحها العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. إذ سنركّز على القيود والتدخلات التي يفرضها القانون على إجراءات تسجيل الجمعيات، وتشكيل مجلس الإدارة، وجمع التبرعات، وأسباب حل الجمعية، ونوعية العقوبات.

في قانون الجمعيات المصري رقم 84 لسنة 2002. يمنح القانون الحق للجهة الإدارية في رفض طلب القيد. ولم ينج القانون في مادته الحادية عشرة من أشهر العيوب التي تتسم بها البنية التشريعية في مصر، أي تجريم ارتكاب أفعال غير محددة بشكل واضح ودقيق، ويتم ذلك عبر استخدام ألفاظ فضفاضة وغير محددة المعالم. إذ يحظر القانون أن يكون من أغراض الجمعية "تهديد الوحدة الوطنية" أو "مخالفة النظام العام أو الآداب" دون أن يسمّي الأفعال أو الأنشطة التي يرى فيها تهديدًا للوحدة الوطنية ومخالفة للنظام والآداب العامة. كما يحظر القانون أن تمارس الجمعية "أيّ نشاط سياسيّ تقتصر ممارسته على الأحزاب السياسية" وكذلك "أيّ نشاط نقابي تقتصر ممارسته على النقابات".

كذلك حرص المشرّع على التدخل في النظام الأساسي للجمعية، ففي المادة 3 من القانون 84 لسنة 2002، ينبغي على مؤسّسي الجمعية وضع النظام الأساسيّ للجمعية وفق البيانات التي وضعها القانون بشكل تفصيليّ، حتى أنّ المشرّع قد أرفق باللائحة التنفيذية للقانون، نظاما أساسيا، يدّعي أنه نموذجي، ويطلب من الجمعيات اتباعه!

ورغم أنّ المادة 3، الخاصة بالنظام الأساسيّ للجمعية، قد أجازت للجمعيات، ولم تجبرها على إتباع النظام الأساسي النموذجيّ، الذي يطرحه المشرّع على مؤسسي الجمعية عند التسجيل، بما يجعل النموذج يأخذ شكل التوصية. إلا أنّ المشرّع، في المادة 5، قد أجبر المتقدّمين لتسجيل الجمعية على أن "يكون طلب قيد ملخص النظام الأساسي للجمعية محررًا على النموذج المعدّ لذلك".

كما تنصّ المادة 23 على أنه "في الأحوال التي تصدر فيها الجمعية قرارا ترى الجهة الإدارية أنه مخالف للقانون أو لنظامها الأساسي يكون لهذه الجهة أن تطلب من الجمعية بكتاب موصى عليه بعلم الوصول سحب القرار ذلك خلال عشرة أيام من تاريخ إفادتها به". وإذا لم تقم الجمعية بسحب القرار خلال خمسة عشر يومًا من تاريخ إخطارها كان للجهة الإدارية أن تعرض الموضوع على لجنة خاصة يتم تشكيلها في المادة السابعة.

ورغم أن القانون يعطي الحق للجهة الإدارية في أن تعترض على ما تراه مخالفة للقانون في النظام الأساسي للجمعية، أو فيما يتعلق بالمؤسسين، إلا أن ذلك لا يحول دون التزامها بقيد الجمعية. ويكون رفض الجهة الإدارية بقرار مسبّب، ويكون لممثل جماعة المؤسسين الطعن على قرار الرفض أمام المحكمة المختصة خلال ستين يومًا من تاريخ إخطاره به. وإذا لم تستجب الجمعية بإزالة أسباب الاعتراض، خلال المدة التي تمنحها الجهة الإدارية للجمعية؛ تقوم الجهة الإدارية بعرض النزاع على لجنة خاصة يتم تشكيلها، وفق المادة 7، وتصدر قرارها خلال ستين يومًا، ويكون ملزمًا وواجب النفاذ، ولا تقبل المحكمة المختصة النظر في النزاع إلا بعد صدور قرار فيه من اللجنة أو انقضاء الستين يومًا.

وفيما يتعلق بتدخلات الحكومة في تشكيل مجلس الإدارة والجمعية العمومية، تحدد المادة 32 عدد أعضاء مجلس الإدارة، كما تتدخل في اختيارهم بشكل تفصيليّ. بل وفقًا للمادة 34، يحقّ للجهة الإدارية، ولكل ذي شأن"!"، الاعتراض على أي من المرشحين والمطالبة باستبعادهم. وطبقًا للمادة 38 ينبغي على مجلس الإدارة كلما اتخذ قرارًا أن يبلغ به الجهة الإدارية خلال 30 يومًا من صدوره، وكذلك الحال بالنسبة لقرارات الجمعية العمومية!

كما ينص القانون في المادة 40، على أنه في حال عدم كفاية عدد أعضاء مجلس الإدارة لعقد اجتماعاته؛ فإنه يجوز للوزير أن يعين بقرار مسبّب مفوضًا من بين الأعضاء الباقين أو من غيرهم تكون له اختصاصات مجلس الإدارة!!

يحدد القانون في المادة 24 أن الجمعية العمومية تتكون من جميع الأعضاء الذين مضت على عضويتهم ستة أشهر على الأقل وأوفوا بالالتزامات المفروضة عليهم وفقا للنظام الأساسي للجمعية، وتمنح المادة 25 للجهة الإدارية حق الدعوة لانعقاد الجمعية العمومية إذا رأت ضرورة لذلك. وتطالب المادة 26 بإرسال نسخة من الأوراق المطروحة على اجتماعات الجمعية العمومية إلى الجهة الإدارية قبل الانعقاد بخمسة عشر يومًا، كما تفرض على الجمعية إبلاغ الجهة الإدارية بصورة من محضر اجتماع الجمعية العمومية خلال ثلاثين يومًا من تاريخ انعقاده. 

وزير التضامن الاجتماعي علي مصيلحي
ويتدخل القانون في تفاصيل غاية في الدقة بالنسبة لاجتماعات الجمعية العمومية، وهي قواعد إقرار صحة اجتماعات الجمعية العمومية كان ينبغي تركها للنظام الأساسي لبحثها وتنظيمها. ويمنح القانون للوزير حق عزل مجلس الإدارة إن لم تجتمع الجمعية العمومية لمدة عامين متتالين.

يسعى قانون الجمعيات المصريّ إلى تقييد وعرقلة تلقي الجمعية للتبرعات؛ فوفق المادة 17 لا يجوز لأية جمعية أن تحصل على أموال من الخارج سواء من شخص مصري أو شخص أجنبي أو جهة أجنبية أو من يمثلها في الداخل، ولا أن ترسل شيئا مما ذكر إلى أشخاص أو منظمات في الخارج إلا بإذن من الوزير، فيما عدا الكتب والمجلات والنشرات العلمية والفنية.

ويتطلب الحصول على موافقة الوزير على تلقي الجمعية لمنحة أجنبية فترة زمنية طويلة قد تصل إلى سنتين، في حين أن القانون يطالب الإدارة بالرد خلال شهرين من تاريخ إيداع الطلب، وجدير بالذكر أن عدد من الجمعيات قد تم إغلاقه بذريعة الحصول على تمويل أجنبي دون ترخيص، بل وحكم على مدير أحد المراكز وعدد كبير من موظفيه، بالحبس من سنة إلى 7 سنوات مع الأشغال الشاقة، بتهمة الحصول على تمويل أجنبيّ. وقد انتقدت لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التابعة للأمم المتحدة، تعقيد إجراءات الحصول على التمويل الأجنبيّ في مصر.

يفرد القانون المصري للجمعيات فصلاً خاصًا بحلّ الجمعيات، ويطرح في المادة 42 ذرائع مختلفة؛ لاتخاذ الوزير قراره بحل الجمعية، ومنها "الحصول على أموال من جهة خارجية أو إرسال أموال إلى جهة خارجية" دون الحصول على تصريح من الوزير. وكذلك إن ارتكبت الجمعية مخالفات جسيمة للقانون أو النظام العام أو الآداب، دون توضيح ماهية الأفعال التي يتصف ارتكابها بالجسامة، وما هي الأفعال التي تخالف النظام والآداب العامة، وتستدعي اتخاذ قرار بحل الجمعية.

ويصدر الوزير قرار بالحل إذا انضمت الجمعية أو اشتركت أو انتسبت إلى "ناد أو جمعية أو هيئة أو منظومة" مقرها خارج مصر، دون إخطار الجهة الإدارية. كما يصدر قرارًا بحل الجمعية التي يكون من أغراضها "تهديد الوحدة الوطنية" أو "مخالفة النظام العام أو الآداب". أيضًا تُحل الجمعية التي تمارس "أي نشاط سياسي تقتصر ممارسته على الأحزاب السياسية" وكذلك "أي نشاط نقابي تقتصر ممارسته على النقابات".

وإذا ثبت حصول الجمعية على أية تبرعات داخلية دون موافقة الجهة الإدارية يصدر قرار الحلّ. وللوزير حقّ إصدار قرار بإلغاء التصرف المخالف أو بإزالة سبب المخالفة أو بعزل مجلس الإدارة أو بوقف نشاط الجمعية وذلك في حالة عدم انعقاد الجمعية العمومية عامين متتاليين، وإذا لم تعدِّل الجمعية نظامها وتوفِّق أوضاعها وفقا لأحكام القانون. ويمنح القانون للجمعية حق الطعن على القرار الذي يصدره الوزير أمام محكمة القضاء الإداري.

يتشدّد قانون الجمعيات المصري في فرض العقوبات التي يتعرض لها من يخالف أحكامه، ويتوسع في عقوباته السالبة للحرية. فهناك الحبس مدة لا تزيد عن سنة وبغرامة لا تزيد على 10 آلاف جنيه، إذا خالف نشاط الجمعية النظام والآداب العامة أو هدد الوحدة الوطنية أو مارس نشاط لا يتيح القانون ممارسته سوى للأحزاب السياسية.

وحتى يجبر القانون المنظمات الغير حكومية على توفيق أوضاعها والعمل تحت مظلته الجائرة؛ فإنه يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر وبغرامة لا تزيد على ألفى جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من أسس منظمة تقوم بنشاط من أنشطة الجمعيات أو المؤسسات الأهلية دون أن يتبع الأحكام المقررة في هذا القانون. ويتعرض لذات العقوبة أي مسئول في جمعية تلقى أموالاً من الخارج دون الحصول على موافقة الجهة الإدارية.

وكذلك يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر وبغرامة لا تزيد على ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من ساهم في أن تنضم جمعيته إلى أي هيئة خارج مصر، دون موافقة الجهة الإدارية، أو رغم اعتراضها.

مقارنة بغيره من القوانين المماثلة في عدد من الدول العربية، يعاني قانون الجمعيات المصري من رغبة واضحة في تكبيل نشاط الجمعيات، وبقائها دومًا تحت سيطرته. وهذا يظهر بجلاء في المفارقة الواضحة بين قانون جمعيات دولة تخضع للاحتلال مثل فلسطين، وبين القيود التي تزخر بها مواد التشريع المصري، سواء في وجوب الترخيص وتعقيد إجراءات التسجيل وحرمان الجمعية من الحرية الكاملة في وضع نظامها الأساسي، والتدخل الفجّ في تشكيل مجلس الإدارة، والعراقيل التي تحفّ بسعي الجمعية في الحصول على التمويل، والصلاحيات المبالغة الممنوحة للوزير وللجهة الإدارية في حلّ الجمعية، وأخيرًا العقوبات السالبة للحريات التي تطارد مسئولي الجمعيات التي تمارس أنشطة مجرّمة تفتقد إلى التحديد والوضوح، وفضفاضة بشكل زائد عن الحدّ.

بناءً على ما سبق؛ نخلص إلى أنّ قانون الجمعيات الأهلية المصريّ، يستخدم كل الأدوات التي تجعل من العمل الأهليّ، أو بالأدقّ النشاط الحقوقي تحت مظلته، عملاً ذا طبيعة تتسم بالخطر، ونودّ الإشارة إلى أنه من المتوقع اتساع نطاق الخطر عقب صدور قانون مكافحة الإرهاب بموجب التعديل الدستوريّ الأخير.

وهو ما يدفع بالكثير من المنظمات غير الحكومية إلى التسجيل كشركات مدنية غير هادفة للربح، هربًا من تشريع الجمعيات المعيب، الذي يتعامل مع منظمات المجتمع المدني بمنظور موروث من حقبة الستينات، منطلقًا من ضرورة تدجين المجتمع المدنيّ وإخضاع منظماته لوصاية الحكومة، باعتبار أنه ذو طبيعة منحرفة بالأساس، وتحتاج باستمرار إلى المعالجة والتقويم والعقاب.

كذلك يتضح أنّ الإرادة السياسية، خلال إعداد ر قانون الجمعيات الأهلية رقم 84 لسنة 2002 وتمريره، لم تكن تتوفر على رغبة حقيقية في دعم المجتمع المدني، ولا كانت تستهدف أن تجعل من منظمات المجتمع المدني في موضع الشريك الوطني، في تحقيق أهداف التنمية والإصلاح السياسي والتحوّل الديمقراطي. ظهر ذلك بوضوح بالغ في تجاهل مقترحات المنظمات غير الحكومية، وعدم الاهتمام بشكل جدّيّ بإقامة حوار مجتمعي حقيقي وفاعل خلال الإعداد للقانون، الذي حظي طيلة السنوات الماضية بصيت بالغ السوء، على صعيد التطبيق، وكذلك في التجاوزات التي تمارسها الإدارة في تباطؤها أو تجاهلها تنفيذ الأحكام القضائية.

وتشير إستراتيجية الحكومة في الإعداد لمسودة القانون الجديد للجمعيات، والمزمع إصداره عما قريب، إلى غياب ضمانة حقيقية لتحقيق الاتساق بين التشريعات الوطنية والالتزامات الدولية، التي تعدّ واجبة النفاذ طبقًا للمادة 151 من الدستور، وما يعنيه ذلك من ضرورة تحرير المجتمع المدني من تغوّل وهيمنة السلطة التنفيذية التي تأبى إلا أن تضع المجتمع المدنيّ تحت الحصار.

لُشر في موقع الأوان في 18 يوليو 2008 -

 لمزيد من المعلومات حول مشكلات حرية التنظيم في مصر؛ يمكن الإطلاع على دراسة ميدانية وقانونية أصدرها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان بعنوان نحو قانون ديمقراطي لتحرير العمل الأهلي، وقد شارك في الدراسة كاتب المقال.

No comments:

Post a Comment